لم أشاهد الرياض قط التي أعرفها كما رأيتها في فيلم مندوب الليل، هذه الصورة التي تجسد على الشاشة بلونها الرمادي المُزرّق، بزاوايا تظهر اتساعها الممتد مناطقياً، وتعددية ديموغرافيتها واختلاف هويات ومرجعيات أحيائها ثقافياً واجتماعياً، القديمة منها في الجنوب والشرق والجديدة في الشمال والغرب، بالإضافة أنه غطى ملمح مستجداً بداخلها، وحلّة حداثية، مازلت أتعرف عليها بتجانساها أو تضادها مع صورتها الذهنية، بإيجاز صُوِّرَت الرياض على حقيقتها، وذلك يغطي قالب الشخصية المحاكي لأفلام قديمة تتمحور حول الشخص الخارجة عن السياق المحيط به، بسبب اضطرابه ولكن محمد الدوخي كانت عبقريته في تجسيد ذلك بعيداً عن الملودرامى المبالغة الأمر الذي جعل العمل أيقوني محلياً وخليجياً.

في منتصف الألفية وخلال فترة تسكعي الفاقدة للنضوج في الرياض (تجولي اليومي والمستمر في شوارعها وأحيائها الذي كان في أغلب الأحيان في الليل)، الحقبة التي أكدت عشقي لشخصيتها وروحها، وما زال على ذلك إلى اليوم حتى مع اكتظاظ شوارعها وازدحام مرافقها وازدياد تسارع الحياة في مختلف نواحيها، كنت أقول في نفسي ولمن حولي حينها، أتمنى بطريقة أو بأخرى أن نوثق روح مدينتنا التي أُشبعت بها أنفسنا، ولكن بشكل غير وثائقي، كما استطاع آخرون فعله لمدنهم مثل نيويورك ولندن في السبعينات وبيروت في الستينات. وها أنا أرى ذلك اليوم بعدسة علي الكلثمي وأداء محمد الدوخي الذي أصبح نجم شباك، وتلك الجوانب في رأيي تجعلنا نتغاضى بشكل لا واعي عن أي ملاحظات أخرى في الفيلم. خاصة وأنه أول فيلم روائي طويل للمخرج علي الكلثمي، والذي يجب إعطاؤه الإشادة التي يستحقها.
قصة الفيلم تتمركز حول كم متراكم من الهموم تثقل عاتق شاب وحيد في وسط الجميع، وتلك مسببات حياتية يعيشها فئة كبيرة اليوم من الطبقة المتوسطة، فئة لم تعد تحتمل ازدياد المصاريف والمسؤوليات المالية، مثل مرض الأب ودعم الأخت المطلقة، وذلك هم دوامة يثقل على جبل فما باكم بشاب يريد العيش لأجله لذلك نرى مقتطفات قصة حب خاطفة لم تُترجم على الواقع لأسباب مكنونة وظاهرة، في وسط هذه القتامة، وتلك العناصر هي محركات أصيلة للقصة وحاضرة في واقعنا المحلي بنسب متفاوتة. والطبقية الحداثية المستجدة في الرياض هي منبع للسرد بمختلف أبعادها، شئنا أو أبينا هذا هو أحد عوامل الشفقة والرحمة والتبرير التي تولدت عند مشاهدتي، وأظن هو الأمر ذاته لكثير من شاهد الفيلم ولمس الواقعية في الطرح.

الجدير بالذكر هو أن فيلم مندوب الليل اكتسب سمعة ناصعة بعد مشاركته في مهرجانات دولية ومحلية، والأهم بعد الأيام الأولى من عرضه في السينما تلقى رجع صدى جماهيري مبشراً، وتلهف على مشاهدته، وتهاتفت المقالات والمراجعات التي تشيد بعمق التجربة ونضجها، كل ذلك كان كفيلاً بتمهيد الطريق لاكتساح شباك التذاكر السعودي على نحو مفاجئ وحالياً هو طريقه نحو النجاح التجاري في الأسواق الخليجية والعربية، حيث انه باع خلال ثلاثة أسابيع فقط تذاكر بقيمة تزيد عن 17 مليون ريال متفوق على أفلام هوليوودية مثل وانكا ونابليون.
فهد المضطرب: ضحية أم آثم
فهد شخصية رمادية مركبة مضطربة ليست مثالية وأيضا ليست بإجرامية شريرة، قد يكون الاختيار لنوع اضطرابها هو محاكاة لأفلام تنتمي إلى السيجما سينما كما عبر عن ذلك مخرج الفيلم في لقاءات عدة، وإن كان إطار الشخصية وحالتها قد لا تعكس قيمة منتشرة في ظاهرها محلياً، ولكنها تمخطت عبر تراكيب مستمدة من الواقع أهمها مقاربة المسؤوليات المتراكمة في مقابل عدم القدرة المادية لمجابهتها؛ بسبب تتابع السقطات والضربات المجتمعية، في مقابل كرامة النفس السعودية التي لا تحبذ الظهور بموضع الحاجة والوهن، وذلك الدافع للأكاذيب الواهمة كما أظهر فهد لنا خلال مشهد لقائه بمديره السابق في حمام المطعم الفخم،

فهد متأسس تربوياً بأسلوب تقليدي حيث زُرع بداخله بوصلة دينية وأخلاقية صحيحة، تؤدي دوراً في الصراع الذي يعتلج بداخله خلال مجريات الأحداث، عندما تدفع به الصعاب والضغوط لتعدي الخطوط الحمراء (التجارة الكحول المحرمة) التي لا يتطرق لها المخرج بحكم مُدين أو مشيطن، بل استخدمها لمصلحة القصة، والطريق الذي سلكه فهد لحل طاماته المادية كان يرى لوهلة بأنها الطريق للمال الذي سيحل العقدة المتشابكة، ولكن الندم المتضخم كان رفيقه، وذلك بعد أن خبأ كراتين الخمر نراه فوراً يصلي في المسجد بوجه متضرع وشاحب، بعد ارتكاب معصية كبيرة ليتبع الحديث النبوي (ما من عبد يذنب ذنبا ثم يتطهر فيحسن الطهور ثم يصلي ركعتين، ثم يتوب لله من ذنبه، إلا تاب الله عليه).

فهو ليس بشخصية عنيفة واتكالية تبرر الجريمة والسرقة وبيع الخمر، بل هي فرصة وجدها بمحض الصدفة في أثناء توصيله لطلب لشقة (420) “هو رقم معروف في دوائر الثقافية لعالم الممنوعات”، تلك الشقة الموجودة في أحد الأبراج الفارهة في الرياض، والتي يبحث قاطنوها عن الشراب الكحولي ومستعدين لدفع الاموال الطائلة مقابلها.
بطولة فهد ملأت فراغ تواضع أداء المحيطين، وتجييش المشاعر مفقود.
كان أداء محمد الدوخي نجم غلاف مجلة إسكواير لشتاء 2023 في شخصية فهد صادقة، وتجذب اهتمامك وانتباهك من اللحظة الاولى، وتفهم من أي أتى وإلى أين يعدو، ولكن بدلا من والده كات الأدوار المحيطة به لا ترقى لنفس مستوى أدائه، على سبيل المثال كانت أخته سارة تنفر منه، وتعامله بقسوة في مقتبل السرد ثم في مشهد لاحق تجدها تتفاعل معه بأخوية بلا عرض تفسير لحيثيات التحول في طباعها، بدلا من أن أداءها الذي لم يكن بالتأثير المطلوب خاصة وأن قصتها الثانوية مهمة في توالي الأحداث ودوافع البطل لإقدامه على اتخاذ قرارات خاطئة، وشخصية المدير كان بالإمكان تمثل جوانب أكثر حدة، وتبيين دوافعها البيروقراطية أو قصورها النفسي، حتى تكتمل صورة التعاطف المشفق على فهد، وتلك ملاحظات قد لا تظهر في إطار العمل كآكل؛ لأن شخصية فهد معبئة الشاشة، وتقود الأحداث بانفعالات مقنعة وردود افعال واقعية.
قد تظن ما أقدم عليه فهد لم يكن سوى رد فعل لشعوره بالاضمحلال والبؤس باتجاه تجسد جوانب مجتمعية كالبروقراطية والعناد في بداية انحدار حاله، مثلما يطلعنا مشهد تحقيق مديره في وظيفة خدمة العملاء التي يعمل بها بجانب كونه مندوب توصيل في الليل. وتلك أول إشارة واضحة على ملامح الأزمة التي يمر بها.

تراكيب الصوت الصورة تتحدث عن تحاكي بلا ترميز مبالغ
لعبت الصورة والإضاءة والمؤثرات الصوتية دورا مركزياً في جذب تركيز المشاهد على الشاشة، وذلك أمر في غاية الأهمية خاصة في هذا النوع من الأفلام، وعوضاً عن جمالية الصورة والألوان الخلابة في نطاق الضمور التي تعانيه الشخصيات داخل الفيلم، كانت تشير الإضاءة والموسيقى الى تحولات في الأحداث تعكس مشاعر فهد ومزاجه، وهو الذي تُسرد القصة من منظوره، مثلاً عندما يقابل فهد أخته وابنتها في الملاهي، تكون ألوان وإضاءة المشهد الساطعة والمبهرة تدل على الفرح،
ولكن عندما تأتي الرسالة إلى هاتفه، ويتحول المشهد توتر وخوف من انتقام عصابة (الحنس) التي تظهر كما قد يتخيلها ابن الرياض، التي سرق منها كراتين الخمر، فتُخمد هذه الألوان والأضواء، ويتحول المشهد للرمادية والدهماء، وترسي مؤثرات الصوت والموسيقى الموزعة بذكاء حول الصراخ النجدة ومحاولاته التوسل التي تخرج من فهد، وهو في قبضتهم، داخل سيارة تمشي بسرعة جنونية على طريق مظلم في أطراف الرياض، حيث تتناوب الظلمة والنور من أعمدة الكهرباء لنختلص عبرها جوانب من الصورة ونحن على أطراف مقاعدنا نتابع ولا نعرف ما هو قادم. ويجب الإشادة بشكل منفصل تجانس المؤثرات وموسيقى الفيلم مع ما يحدث في الصورة، وذلك جانب مهم جداً لا يهتم به السواد الأعظم من الصناع.

روح الرياض كما لم تظهر سابقاً
لا نرى ليل الرياض الممطر الساحر إلا بعدسة زرقاء تشابه بعض الشيء ألوان مدينة غوثام، و تستدعي مشاعر الراحة والترقب معاً، حتى في مشاهد الذهاب للعمل المليئة بالتوتر والازدحام، تشعر كأن المدينة تعيش في ليل متواصل، والليل هو الأزمة التي تزيد في تعب نفسية فهد وانحدار حياته، أزمته المادية المتمثلة في حاجته إلى المال من أجل علاج والده، ومن أجل تمويل مشروع أخته سارة التي تحاول أن تستقل مادياً عن زوجها، بجانب بصيص. أما عبر فرصة لقصة حب سلبت منه قبل أن يعيشها.

النهاية قد امتعض منها البعض؛ لأنها نهاية مفتوحة لم تَقفل القصة وتوضح مصير فهد بعد المشهد قبل الأخير، ولكن تمكن المتابع تخمين، فهي ليست متقعة في الضبابية، بل هناك إشارات تصل بك نحو استنتاج او اثنين، ولكن المشهد النهائي في الباص العام وحركة الكاميرا توحي لنا بعنوان فهد ومن يشبهونه مع أن الواقع ليس متكاتفاً ضده كما كان يظهر لنا، بل هناك بصيص أمل تكافلي قد يُخرج أباه من معضلته.
الفيلم هو نقلة جيدة جداً في عمر السينما السعودية الناشئة، هو عمل جيد يستحق المشاهدة وسيستمتع به أي شخص مع اختلاف خلفيته ولكن اهل الرياض ومن زارها سيعجب به على نطاق اكبر.
قد يهمكم الإطلاع على روح الرياض تقود محمد الدوخي نحو منعطف درامي فريد