قصة فيلم نورة برمزيته الفلسفية تحدث في أي مكان في العالم، لعمومية حالة الصراع الداخلي المتجسدة في الشخصيتين الرئيسيتين، كلاهم يثقل على كاهله قناعات متمردة عن السياق الاجتماعي التقليدي وطاقة إبداعية مكنونة، في داخل عالم مفعم بروح بساطة القرية السعودية، تدور الأحداث من داخل حقبة التسعينات الكلاسيكية المشعلة لحنين الماضي، بتكوين بصري وإختيارات فنية تبث الروح فيه.

خلال عرضه الاول في قاعة سينما رد سي مول بجدة ضمن مهرجان البحر الاحمر، وقفت في مؤخرة طابور طويل من المترقبين، والذين مثلي سمعوا عن الفيلم بداية تصويره في العلا وكان ذلك بعد حديثي مع المخرج توفيق الزايدي والبطل يعقوب الفرحان، هنا كنت استنظر ان يتطابق الفيلم بتجرته السينمائة مع توقعاتي المتواضعة وكان كذلك.

اول افلام توفيق الزايدي الطويلة، الحائز على جائزة أفضل فيلم سعودي في مهرجان البحر الأحمر ، هو تمثيل لحالة مألوفة يمر بها كل فنان حقيقي، تجسد الإبداع الذي يعتلج بداخله في فترة صعوده وتشكله الفني، طاقة فنية لا تستطيع أن تخرجها أو لن يهتم أحد إن فعلت، هذه الحالة التي يرافقها التوتر الصحي والسلبي معاً، تمثل الصراع بين القيود الحياتية والنفسية المعيقة أمام تفجر الإبداع الفني المتراكم داخلياً، الذي يحاول الانبثاق من الجوارح كلها، هنا نفهم سبب اختيار توفيق الزايدي لهذه القصة التي تعكس مرحلة مهمة في مسيرته المهنية والشخصية، والتي لم تختفي ملامحها تماماً، كما هي توازي الصراع الذي كان يعيشه الفنان داخل الممثل يعقوب الفرحان الذي مكنه، من ترجمة الشخصية على الشاشة بإنسانية ومصداقية.

كان المخرج توفيق الزايدي يعمل على إستخراج وطرح ما يدور بداخله عبر أفلامه القصيرة (القناة الأنسب حينها)، كانت هذه الخطوة مدفوعة بالحاجة الملحة التواقة للصعود الى السطح، في سبيل ترجمة تلك اعوالم والقصص التي تنسجها مخيلته الخصبة، امام العوائق والصعاب،

“منذ بدايتي في 2006 وحتى 2017 كنت أصنع أفلاماً قصيرة تعبر عما بداخلي فأفضل أن أعرضها في مهرجانات خارج السعودية، الأمر مرتبط بالراحة الداخلية التي لا تحققها إلا الكتابة ونسج العوالم، من المستحيل أن أكتب شيئاً، وأنا أشعر بالراحة، هنا تعمل العضلة الإبداعية على خلق حلول وسيناريوهات تمكنك من السرد بشكل ترضى عنه”

توفيق الزايدي

لماذا حقبة التسعينات؟

ما يميز اسلوب تناول توفيق لحقبة التسعينات هي تلك الروح التي تحاكي الحقبة بجملياتها والوانها وظلالها، ولكنها تظهر بواقعية حقيقية لدرجة تدفعك لتصديق حقيقة وجود الشخصيات، بالإضافة خيار المخرج بعدم الدخول في الرسائل الإجتماعية وشيطنة فصيل مقابل أخر،

” أنا أركز على الموضوع وليس الرسائل، الرسائل هو دور الإعلام وصحافة، وان قررت يوماً ان اقول شي من خلال فيلمـ فإن المتلقي ستصله رسائل مختلفة بفعل خلفيته والزاوية التي يشاهد منها.والتسعينات هي الحقبة التي أخرجت لنا أجمل الأغاني والقصص التي مازالت جزءاً من الثقافة حتى اليوم، وقد يوعَز ذلك لصعوبة الوصول إلى المتلقي عبر القنوات المتاحة بفعل والرقابة والمحدودية القنوات حينها، فلا يوجد مجال لعرض إبداع مزيف لن يتأثر به أحد، هنا يلعب القلق دور تنقية المحتوى الإبداعي خلال تمخضه”

توفيق الزايدي

الدور الحقيقي للمخرج

 يقول الشاعر والكاتب تشارلز بوكاوسكي بأن معيار البدء بالكتابة هو تكتل الحاجة الملحة الخانقة التي تبحث هن اي سبيل للدفع بسيل الكلمات عبر منفذ،  وتلك هي الحقيقة التي يؤكدها توفيق الذي يظن بأن المخرج والفنان يجب أن يعيش في حالة قلق صحية، ويجب تكون مستمرة  إذا تلاشت يختفي معها الفن الأصيل، لذلك من الطبيعي أن تكون حياة الفنان الحقيقي متقلبة بين صعود وسقوط”

“عمل المخرج ينحصر بمراحل الاختيار الأولية للممثلين والأُطر الفنية والألوان وغيرها، ولكن لا يتدخل بتعديل وتغيير الأداء التمثيلي، حيث انه يجلس مع الممثلين قبل التصوير ويعمل على توضيح الشخصيات التي يديرها بدلا من إدارته للممثلين، فلن أتناقش مع يعقوب حول الأداء بتفاصيله فهو ممثل محترف، بل نتكلم عن الشخصية وتطوراتها،”

أؤمن بأن التمثيل في السينما يجب يخرج من الداخل، لذلك أدخلت ماريا دورة تمثيل أساسية لتمكنها من التحكم بأدوات التعبير على الشاشة مع الحفاظ على الواقعية، وكانت ماريا متجاوبة ومستوعبة لهذه الأساسيات، وأنا لست المخرج الذي يحاول استحضاراً المشاعر من ذاكرة الممثل، ولكني أبين له خلفية الشخصية والمشاعر المحيطة بها ومن أي أتت، وإلى أن ستذهب. توفيق الزايدي

توفيق الزايدي

بداية الفكرة وكتابتها

عند كتابتي لشخصية، فانا اكتب روحها، الأمر الذي دفعني منذ المراحل الأولى أن أتحدث مع يعقوب الذي تجمعني به صداقة طويلة ليكون هو الممثل المثالي للدور، الذي يفهمه بشكل عميق؛ لأنه هو الفنان إلى بداخله إبداع وفن يحاول أن يطلقه، وعاش مثلي حالة خلق الفن من الداخل وتدفقه والحاجة إلى ترجمته في الواقع في مقابل العوائق والحواجز”

حين ما تكتب الشخصية، وفي ذهنك الممثل الذي اخترته لتجسيدها، يسهل بعد ذلك بناؤها بل، وتستطيع النقاش معها عبر إنسان حقيقي (الممثل) الذي تأخذه داخل عالم مواز، اما شخصية نورة التي تشكلت في مخيلتي كان العثور عليها أمراً اكثر صعوبة.

الفن هو أداة تعبير تتسم بالعمق يترجمها ويستوعبها المتلقي بشكل منفرد، مثلا العلاقة بين يعقوب (نادر) ونورة (ماريا) بعيدة عن قصة الحب التي قد ينتظرها المشاهد، بسبب تراكمات قصصية  تأثر بها، وخلقت الحاجة إلى وُجود البُعد الرومانسي في أي علاقة على الشاشة، وخاصة أن يعقوب من السهل وضعه في هذا الإطار.

عقبات الإنتاج السعودية

عالمياً لابد أن يمر الفيلم السينمائي بعقبات مختلفة تشكل ضمن مرحلة ما قبل الإنتاج وحتى التوزيع، وكل بيئة لها عقباتها الخاصة بها، المنبثقة من خلفيتها.

“نحن في المملكة نملك الشغف والقصص والمواهب، والتمويل الذي نستطيع من خلاله أن نرتقي بالصناعة، لكن للأسف ينقصنا الإدارة المناسبة لهذا المال الذي في كثير من الأحيان يذهب بالاتجاه وعبر الآلية الخاطئة، ومن المخاوف التي أتمنى عدم حدوثها هو أن يستمر الشغف، وفي المقابل يتقلص ويختفي التمويل بعد عقد من الزمن،

وتلك هي المشكلة التي واجهتني في فيلم نورة الذي بدأته بنصف ميزانية مقطوعة، الوضع الغير مريح الذي دفعني لاكتشاف المنتج بداخلي، بدوره الحقيقي الذي يمكنه من شأنه أن يسهل صناعة الفيلم عبر إيجاد حلول في مختلف مراحل الإنتاج، وبفعل هذه التجربة تولدت عندي قناعة بأن عليك أن تكون منتجاً جيداً لتصبح مخرجاً متمكناً. واحترافية المنتج السعودي تحتاج إلى تطوير لكي تتماشى مع تطلعات الفنية للمخرج، وحتى الفهم الخاطئ لدور المنتج يجب تغييره، حيث إنه وظيفته تتعدى توفير المال، بل إدارته بما يتناسب مع تطلعات ورؤية المخرج التي يراها بجلاء، وبالطبع أشكر أفلام العلا وهيئة الأفلام الذين دعموني لوجستياً”.

توفيق الزايدي

ماريا هي نورة: تمثيل للروح 

ماريا الفتاة بنت السادسة عشر التي فازت بالدور، وجسدته بشكل مدهش وصادق، تم اختيارها قبل بدء التصوير بأسبوعين فقط،  والمحرك لقاؤها مع المخرج توفيق الزايدي على الزووم، الحوار الذي دار حول كل شي ما عدى الفيلم والشخصية، حينها تيقن الزايدي بأنه عثر على الروح التي كان يبحث عنها، بجانب أنها تمر بنفس مرحلة التحول العمرية التي تعيشها شخصية نورة، وهي مرحلة التحول من فتاة إلى امرأة، فلم يريد المخرج الفشل في إقناع المشاهد بشكل تام بعمرها، أحد أهم عوامل القصة.

“عندما تشكلت شخصية نورة في ذهني بشكل تام، ولم أكن أعرف من سيجسدها، بدأت رحلة البحث عنها التي أخذت الكثير من الوقت والجهد التي استمرت لسنتين، عملت الكثير من تجارب الأداء، وحتى أجلست بعضاً من الممثلات مع يعقوب لألتمس وجود الكيمياء والروح التي أبحث عنها خلال علاقة الشخصيتين، طال الأمر وتعددت الطرق في البحث، كنت أطرح أسئلة على الممثلات وانتظار ردهم عبر صوت وشخصية نورة وبعدها أقرر.”

توفيق الزايدي

وتقول ماريا بأنها كانت مترددة في مقتبل الامر ولكن  بتوجيه وثقة توفيق الذي أعطاها دورة تأسيسية في التمثيل مع المحافظة على الروح التي دفعته للإختيارها في المقام الاول، بجانب دعم وتهيئة البيئة التي ارساها فريق العمل وممثلين كبار مثل يعقوب والسدحان، الامر الذي حطم مخاوغها بشكل سريع.

أؤمن بأن التمثيل السينمائي يجب يخرج من الداخل، لذلك أدخلت ماريا دورة تمثيل أساسية لتمكنها من الأدوات فقط، مع الحفاظ على الواقعية، وكانت ماريا متجاوبة ومستوعبة لهذه الأساسيات، وأنا لست المخرج الذي يحاول استحضاراً المشاعر من ذاكرة الممثل ، ولكن كنت أبين لها خلفية الشخصية والمشاعر المحيطة بها من أي أتت، وإلى أن ستذهب. والممثل الموهوب لا يحتاج دعماً فقط توجيه بسيط”

توفيق الزايدي

يعقوب الفرحان بدور مختلف ومألوف

يلعب يعقوب الفرحان أحد أهم الممثلين في المملكة، مختلف في أعين الجمهور، ولكن مألوفاً بالنسبة له، دور الأستاذ نادر القادم من المدينة إلى منطقة قروية تمر في بداية مرحلة انتقالية جديدة على أهلها بتغيرات مثل دخول الكهرباء إلى التعليم الأساسي، في خضم ذلك الجو المليء بالحذر من الغريب والجديد ومقابله الهدف السامي لمحو الأمية، يدور في خلد نادر صراع الفنان الذي يعيش حالة الإبداع المكبوت التواق للظهور. ولكن  لنفهم تناغم يعقوب مع شخصية نادر وتمكنه منها، علينا فهم  العلاقة الشخصية بينه وبين المخرج

أخذ توفيق صديقه بعيداً عن الصورة التي ترسخت في ذهن معجبيه، خاصة وأن الإنتاج بدأ يأخذ منحنى جدي، بعد نجومية يعقوب في دور رشاش، “جلست معه وقلت أولا سأحلق شعرك، وكان رافضاً في البداية ولكن اقتنع بأن الشخصية والصورة يجب أن تظهر بشكل مغاير عما سبق، وهي خطوة مهمة في خلق الشخصية وتشكيلها البصري الممتد من هويتها، وهو أمر يتبعه الكثير من مخرجين” توفيق

منذ تمخض الفكرة عرضها علي توفيق، كنت متحمساً لمعرفة المزيد عنها، لكن بعد ذلك اختفى لسنتين ليعدوا في رحلة كتابة النص وخلق العالم بكل تفاصيله الكلاسيكية الساحرة، لكن إذا أردت أن  أوعز فهمي للشخصية وتجسيدها بالشكل الصحيح لأمر، سأرجع إلى صداقتي الشخصية الطويلة مع توفيق وتناغمنا الإبداعي، لذلك من الطبيعي أن أشعر بالراحة داخل الشخصية

يعقوب الفرحان

ومن الزوايا اللافتة خلال الفيلم هو سر الكيمياء والتجانس بين يعقوب الممثل المحترف ذو الخبرة الطويلة مع ماريا الممثلة المبتدأة التي تقف امام الكاميرا لاول مرة،

” كان أمراً متوقعاً حيث إن توفيق قد ذكر لي ذلك فكنت متحمساً حيث أني بشكل عام أحب العمل مع أشخاص يمثلون لأول مرة، لأن مشاعرهم تخرج أمامي على نحو تلقائي عفوي، على نقيض بعض الممثلين أصحاب الخبرة الذي تشعر بأن مشاعرهم آلية مُتعلمة غير ملموسة لتبنيهم نمط أداء مكرر، المقصد هو ان لا تكون أناني،  وتحاول أن تذهب نحو الشخصية بأي شكل، ولا تحور مشاعرها وتركيبها حتى يسهل تجسيدها، وتلك العفوية كانت جاهزة في ماريا، بدلا من أن الشخصيات مكتوبة بشكل ذاتي ومتعددة الأبعاد تكاد أن تنطق.”

يعقوب الفرحان

استمتعت بالعمل مع ماريا، ولم يتخلل الأمر أي صعوبة، وعندما كانت تحتاج إلى توجيه كان توفيق وأبو تركي (عبدالله السدحان)  جاهزين لمساعدتها، وتلك روح تعاون المفعمة بالإنسانية التي لمستها في طاقم العمل، ومن الطرائف التي تجسد هذا الترابط العالي، هو أن خلال التصوير الذي  تزامن مع فترة اختباراتها النهائية، استخرجنا لها إذن يسمح لها بدخول الامتحانات عن بعد، وفي كثير من الأحيان بين المشاهد، وفي أوقات الاستراحة كنا (جميعاً نذاكر لها) ونساعدها بدراستها.

يعقوب الفرحان

قد يهمكم الاطلاع على فيلم ناقة : خروج عن السرد المألوف يعبد طريق جديد لنمط فني تجاري في السينما السعودية

المحتوى ذي الصلة