تعدى الإنسان وصوله المادي الى سطح القمر منذ عقود، واصبح الإنجاز يأخذ طابع إبداعي وتكنولوجي اوسع، وفي حالة ساشا جيفري أحد أشهر الفنانين في العالم، كان دافعه روحي وإنساني، لذلك بعث رسميا ًعمله الفني ” معاً ننهض مع ضوء القمر” We Rise Together with the Light of the Moon، إلى القمر على متن صاروخ فولكان التابع لشركة United Launch Alliance (ULA) من كيب كانافيراليوم، المقرر وصوله بتاريخ 23 فبراير 2024. ليصبح صاحب اول لوحة فنية اصيلة على القمر .
جلس احد رواد مدرسة الواقعية السحرية ابن 45 ربيعاً، التي تقدر لوحاته بعشرات الملايين، ساشا جيفري مع إسكواير السعودية ليحكي قصة لوحته (We Rise Together with the Light of the Moon) التي ستصل إلى القمر بتاريخ (23 فبراير)، وتكلم ساشا عن خلفيته الفنية والشخصيةوالنهج الذي يتبعه في تكوين لوحاته، ورأيه الصريح في عدة امور مثل الفن المعاصر وحراس البوابات، والمشهد الفني السعودي.

قد يطرأ على ذهن القارئ العادي عند سماعه بقصة أول لوحة على القمر بأن الفكرة يحركها دافع ترويجي بالمقام الأول، ولكن عندما تتعرفون على شخصية صانعها ساشا الشخصية الروحانية التي تعتمد على الوحي والطاقة التي يشعر بالامتنان عندما تزوره لكي تثري مكامن إبداعه، وتجعل تجاربه وأفكاره ومشاعره تدور في فلك إبداعي تترجم في لوحاته، تختلف او تتفق مع الوصف، إلا أن هذه الطريقة التي اتبعها منذ عقود، وأوصلته لأبواب النجاح بلا الحاجة إلى التحايل على حراس الأبواب في عالم الفن، الذي يمقت أدوارهم.
ساشا قد نرى في مسيرته تحطيم رقم غينيس القياسي عدة مرات، لأكبر لوحة في العالم التي رسمها في ردهة فندق أتلانتيس في دبي أو حتى لوحته التي ستصل للقمر قريباً، كلها فرصة اتت إليه بشكل طبيعي ولم يسعى إليها.
وما يميز ساشا هو فرادة وندرة الطاقة التي تبثها لوحاته لمن يشاهدها، ونوعز ذلك كما بفعل هو الى عوامل السحر التي تصادف الفنان خلال تكوينه لقطعته الفنية، التي عليه أن يستثمرها بذكاء عن قدومها، لذلك يأخذ ساشا وقتاً طويلاً خلال تكوينه لمجموعات لوحاته الفنية التي يقدمها في معارضه، خاصة وأنه يتبع نهج رسم ارتجالي بلا التحصير لهيكلية اللوحة وعناصرها الصورية، بل يدع الطاقة والأحاسيس وتركيزه على مقتطفات حياتية بجانب نيته الصافية أن تقوده نحو الصورة،
في مسيرتي الممتدة لـ27 عاماً، خلال كل سنتين أرسم فقط 12 لوحة، وأقدمها في معارضي، وذلك رقم ضئيل مقابل المتعارف عليه في معارض الفنانين الأخرى التي يوجَد بها ما يزيد عن 50 لوحة.
ساشا جفري
قصة صعود لوحة جفري للقمر لم يكن حلم راوده او هدف يطمح للوصول إليه، بل حكمت الأقدار بأن تقدم له الفرصة،”لم يكن شيء قد فكرت به او أردت تحقيقه من قبل، لكن عندما واكبت 2024 الذكرى الخمسين لوصول ناسا الى القمر لأول مرة، وكما هو معلوم زمع تفوق دول ومنظمات اخرى على ناسا في عالم استكشاف الفضاء خلال العقود القليلة الماضية، أصبح من المهم لدى ناسا ان تعود إلى القمر بشكل مختلف، وعملوا على ذلك خلال سنوات، حتى وصلوا لإطلاق رحلة أرتيمس وهو مشروع ناسا الخاص بالتعاون مع شركة بريطانية ألمانية اسمها سبيس بت وشركات أخرى من بينها شركة سيلين المختصة بتصنيع وبناء القطع الفنية للفضاء، وهم من تواصلوا معي قبل ثلاث سنوات، وأخبروني بأنهم يطمحون لإرسال أول لوحة إلى سطح القمر، ويريدون بأن تكون من صنعي، حينها انصدمت

لم يتحمس جيفري للفكرة في بادئ الأمر وبل راودته الشكوك حول الهدف من ذلك وأحقية مشاكلنا واضطراباتها على الأرض أن تنال هذا الاهتمام والموارد، “في بداية الأمر خالجني شعور بعدم الارتياح بعد أن طرأ علي تساؤل يراود الكثير من الناس، لماذا يتم صرف كل هذه الأموال الطائلة على رحلات الفضاء، ونحن على لا نهتم في الأرض التي نعيش عليها، المليئة بالمجاعات والحروب والاضطرابات، الأولوية أن نبذل الجهد، وندفع بمواردنا نحو حلها، وبعدها تمعنت في الفكرة، وقلت بما أن مهمة القمر ستحدث لا محالة، واملك فرصة للمشاركة بها دعني اجعل دوري فيها ذا بعد إنساني قد يعود بالنفع على الإنسانية بأي شكل كان”
هنا بدأ ساشا بالتفكير في الزاوية الرسالة والطاقة التي يريد بثها عبر هذا العمل، وأرضية لتكوين لوحة فنية تحمل مغزى ومعنى مهماً يركز على البعد إنساني بالمقام الأول، “هنا قبلت العرض وبدأنا بالعمل، وكان اول تساؤل ما هو طبيعة السطح الذي سيُرْسَم عليه، لكي نستطيع وصف اللوحة بالأولى على القمر يجب أن نضمن ديمومة بقائها لما يزيد عن ألف سنة، هنا دخلت شركة سبيس بت لكي تصنع لوحاً معدنياً مربعاً، وتضمن بأنه سيُحَافَظ على تفاصيل اللوحة لمدى ألف سنة على سطح القمر”

اللوح المعدني الذي حفر ساشا اللوحة عليه،مصنوع بطريقة تساعده على مواجهة كل الظروف الطبيعية القاسية الموجودة على سطح القمر، مثل الحرارة العالية والبرد القارص الذي يصل لدرجة 190 تحت الصفر، بجانب مشكلة الجاذبية والإشعاع، بالإضافة أصعبها وهي النيازك التي تسقط على السطح بشكل دوري، لذلك تم صناعة هذا اللوح بإذابة مجموعة من المعادن منها الذهب وحجر القمر، واُخْتُبِر لعدة سنوات بكافة السبل للتأكد من ديمومة صلابته في مقابل هذه الظروف.
اللوحة لن يكون بالإمكان مشاهدتها بالعين المجردة من الأرض، لأنها ذات مقاييس صغيرة لكني أظن بأن هناك تاليسكوب واحد يمكنك مشاهدتها من خلاله وهو أقوى مقراب نملكه، ولكن سـتأخذ ناسا بعض الصور للوحة بعد أن تضعها على سطح القمر المنير، وذلك أمر أنا متحمس له.
“لم أفكر في حجم هذه الخطوة لأني أعمل بداخلها، إلا عندما سألتني ابنتي الصغير هل ستضع لوحتك على القمر؟ هنا شعرت بحجم الأمر خاصة وأن القمر له معاني وترميز وقيمة أكبر في أذهان الأطفال الصغار الذي يمضون بحياتهم ببراءة وصدق، على عكس الكبار التي ينظرون إلى الأمر بزاوية نظريات المؤامرة أو خدعة ترويجية”
ساشا جيفري
ما هو رسالة ودلالات أول لوحة على سطح القمر؟
عندما رسمت لوحتي على سطح قماشي كما أفعل في العادة، ظهر شكل قلب داخله شخصان متداخلان، وذلك تمثيلاً لإعادة التواصل الإنساني، النية التي حملتها في نفسي خلال هذا المشروع، لتشير اللوحة لقابلية إعادة التوحد الإنساني، ستظهر إمكانية ارتقاء العالم لمكانته المرادة في الطبيعة والسلام والمحيطات، وكل أبعاد الإنسانية الجميلة على وجه البسيطة. وداخل اللوحة هناك 88 قلباً، بعد ذلك علي أن أنقل اللوحة عبر الحفر بالليزر على لوح المعدني بطول وعرض 35 سم الأمر الصعب الذي أخذ مني أربع محاولات لقساوة المعدن الشبيه بالمعدن المستخدم في صناعة رؤوس الصواريخ

ماذا يمثل لك هذا الإنجاز؟
ان أهمية الامر لا تتعلق بأن أصبح صاحب أول قطعة فنية على سطح القمر لأن ذلك بظهر بأنه خدعة ترويجية نرجسية، لكن المعنى أعمق، وفكرت به لفترة هو عندما يدخل الليل على اي بقعة من الارض وتنطفئ الأضواء كلها يبقى مصدر الضوء الطبيعي الوحيد وهو القمر، الذي يشع علينا بوهجه، وعليه لوحتي التي رسمتها بنية تمثل إعادة التواصل والاتحاد بيننا قد تكون تجسيداً لفكرة (من الظلمات يشع النور) وقلت لنفسي إذا صنعت اللوحة بنية صافية قد يكون هناك طاقة إيجابية تشع فعليا على الأرض، وما اكتشفته في مسيرتي الفنية هو عندما تمسك الفرشة، وتدفع بها على القماش بالتركيز على طاقة صادقة ومشاعر واضحة ودوافع إيجابية تُبَثّ طاقة غريبة أشبه بالسحر في تكوين اللوحة، حتى تُكمن بداخلها تلك الطاقة، وتصل لمن يراها.

كيف اكتشفت قدراتك الفنية؟
اكتشفتها بدافع الحاجة وليس الإلهام، خلال طفولتي عانيت عسر قراءة الشديد، بحيث أني كنت لا أستطيع فهم العالم المحيط بي عبر الكلمات والتواصل مع من حولي، مما ولد بداخلي الغضب والإحباط ولكن كنت محظوظاً بحصولي منحة لدخول جامعة إيتين التي تتبع نهجاً تطويري يهتم بطلبتها، متمكناً من قنوات تعبير أخرى كالرسم، الأمر الذي جعل نصف المعلمين في مدرستي يظنونني عبقرياً والنصف الآخر يرونني مجنوناً، وبعد حوارات الإدارة مع أبي الذي تبني منظور العبقرية وأمي التي كانت تبحث عن حل للمشكلة، تم حينها القرار بإعطائي مفتاح المرسم والحرية أن أفعل ما أريد به، ومن هنا كانت نقطة التحول، وبدأت الأمور تقع في نصابها بالنسبة لفهمي للعالم عندما وجدت الأداة المثلى للتعبير بالنسبة لي، ومن هذه النقطة مكنتني من التحسن في دراستي ودخول جامعة أكسفورد بالكلية الفنية،وبعدها تتابعت الخطوات حتى وصلت لما انا عليه اليوم
من هم الفنانون الذي كانو مثلوا لك الإلهام في بداية مسيرتك الفنية وما هو طبيعة وأدوات الإلهام التي تستخدمها في تكوين رسوماتك؟
استوحيت الكثير من الفناني القدامى أكثر من المعاصرين أمثال مايكل آنجلو وفان كوخ وتولسي تاك وديغار ومن المعاصرين كانو فناني الستينات والسبعينات مثل غوكي وميشيل باسكيات ، وعبر هؤلاء وبالتأثر بهم جربت مدارس وطرق رسم مختلفة حتى وجدت نفسي، ولكن إلهامي الفعلي هو المشاعر الإنسانية التي لا حصر لها ولكن لا نعيشها بكليتها في اغلب الاحيان لأنها قد تسنفذ من طاقتنا، احاول ان احس بتلك المشاعرالحقيقية المختلفة خلال يومي العادي وبل ابحث عنها، لكي أستحضرها في عقلي الاواعي لاحقاً بنية صافية خلال تكويني للوحة التي ارسمها. بحث كل لوحة هي مدفوعة بإحساس معين.

كيف توازن بين تقديم لوحات فنية اصيلة تشعرك بالرضى، مقابل ان تجني قوتك كرسام محترف؟
إنها معادلة صعبة، انظر اليوم لمسيرتي الفنية على مدى 27 عاماً ، وأرى أن خلال 25 سنة الأولى كنت مخطئاً فيها، نحن الرجال قد يأخذني الأمر بعض الوقت لتتلاقى كل قطع حياتنا في أماكنها الصحيحة، ونصل للتوازن المناسب، وكان للحظ دور في حياتي لا يمكن تجاهله، فلم أظن يوماً بأني سأبني مسيرة وحياة كريمة بفضل الفن، ومنذ البداية كنت أنظر إلى المال كوقود للخيارات اشتري به الوقت الذي احتاجه لتكوين مجموعة جديدة من لوحاتي بلا الحاجة إلى العمل خارجه كما كنت أفعل كنادل في المطاعم، قبل عرض مجموعتي الأولى بعمر 21 سنة التي بدأت مسيرتي الاحترافية كفنان يعيش ويقتات من فنه.

ما رأيك في الفن التجريدي والمعاصر، أيجب أن يتذوقه الشخص العادي، ويستمتع بما لا يفهمه من القطع الفنية؟
أنا صريح فيما يخص هذا الأمر، بإيجاز عالم الفن المعاصر مليء بالهراء، والفن العموم منذ مئة وخمسين عاماً وحتى اليوم هو تحت سيطرة واحتكار عدة جهات، وذلك أمر غريب في العالم أن تكون تجارة ومشهد فنياً تُحرَّك خيوطه بمركزية من قبل دارين للمزادات وأربعة أفراد لا تخرج قبضة المقاليد من يدهم، أمثال بيجي هوغنهاين، جيل جوبلين، ولاري جوجوزيام، لذلك على متذوق الفن أن يتجاهل كل هذا الهراء المسمى بالفن المعاصر، وان يقيس مدى جمالية اللوحة او القطعة من خلال تجربته الشخصية والمشاعر التي يخرج بها من رؤيتها وتحديقه بها، والجميع يجب ان يتساءل هل يعجبني الفن وهل يحرك مشاعر جميلة بداخلي، إذا كان الجواب نعم، ببساطة هذا تأثير الفن الحقيقي، وذلك ما أهدف إليه في لوحاتي، تحريك المشاعر والتواصل مع الوعي الإنساني، الامرالمفقود في الفن المعاصر، وقليل من الفنانين المعاصرين يتبعون هذا النهج. والواقعية القديمة لإبداعية في الرسم لها ديمومة في التأثير في المشاهد.

ماهي نصيحتك للفناني الصاعدين الشباب؟
يجب على الفنان ناشئ أن يتحرر أن اسوء شعورين على الإطلاق هم الخوف والذنب، كليهما سيحطمون طريقه قبل أن يسلكه وسيقيدون مكامن إبداعه.
ما رأيك المشهد الفني السعودي والخليجي في منظقتنا؟
اولاً الإرث الفني القديم هو ارضية لكل تطور مستقبلي، مثلا السعودية هي من اجمل الدول في العالم وتمتلك سبعة مواقع أثرية مسجلة اليونيسكو، هي مهد لأول حضارات استخدمت الإبداع الفني في التواصل مثل حفر وصقل الصحور وتحويلها لقطع فنية في العلا، ايضاً التاريخ في الشارقة وعمان، المشعد الفني في الخليج قبل 5 سنوات كان يتسم بالسذاجة وعدم النضج ولكنه أختلف اليوم في العواصم الخليجية ليصبح متوازي مع المشهد العالمي ويجب أخذه على محمل الجد، ولكن على الفنانين الان يبتعدوا عن الذكاء الإصطناعي، ويستوحوا من ارثهم ولكن كوحي لا ينسخوه.
قد يهمكم الإطلاع على الفنان جاك أرميسترونج: صاحب أغلى اللوحات في العالم، الغرب فقد بريقه الإبداعي