بات ملتقى طويق للنحت “نقطة التقاء” لأبرز الفنانين حول العالم، فلماذا النحت؟ وما هي حقيقة تأثير الهوية الإسلامية؟ يكشف لنا الفنان فهد الجبرين بعض التفاصيل المثيرة حول هذا الفن العريق، ورحلة النحت.
فلنذهب إلى رحلة ثقافية مُلهِمَة، هنالك حيث كانت الفنون هي اللغة التي تتواصل بها الحضارات العريقة مع بعضها البعض، وبالحديث عن الفنون لابد من أن يكون “النحت” حاضرًا، الفن الذي مارسته شعوب الأرض قبل أكثر من 4000 سنة. يبدو أن شعوب ذلك الزمان أرادت أن تنقُش اسمها في ذاكرة التاريخ، ووصف النقش هنا لم يكن مجازًا فقط، بل وصفًا دقيقًا لمنحوتات خُلِّدت على مر السنين، حتى وإن كنَّا نجهل صُنَّاعها إلا أنها تمكنت من نقل صورة كافية وواضحة حول تفاصيل تلك الحضارات البائدة. ولكن يبقى السؤال، لماذا النحت؟

تتعدد الأسباب من زمن إلى زمن، قديمًا كان النحت وسيلة توثيق أصيلة، في حقبة لم تتعد بها طُرق التوثيق الحديثة، فالكتابة تبلى، والرسم يتلاشى مع مرور الوقت، ولكن النحت باقٍ ما بقيت الأرض، وإن ذهب أهلها واندثروا. حسنًا قد تبدو هذه النظرة التاريخية غير كافية لتبرير حضور النحت في عصرنا هذا، حيث تطورت تقنيات التوثيق، وبات بإمكانك اليوم توثيق المشاهد التي تراها أمام عينيك بواسطة هاتفك المحمول، لماذا إذًا؟
يجيب الأكاديمي والنحَّات السعودي فهد الجبرين على السؤال قائلًا: “التحدي هو الأمر الذي يميز النحت عن غيره من الفنون، يعكس النحت مفهوم تأثير الطبيعة على أنفسنا، نمر بالعديد من الظروف التي تتجاوز قدراتنا البشرية، ولا طاقة لنا لمجابهتها، والنحت هو خير دليل على ذلك، لا يمكنك التعديل على منحوتتك إن أخطأت، هذا التحدي هو المحرك الأساسي لهذا الفن”.

درس فهد الجبرين التربية الفنية في مرحلة البكالوريوس، ولكنه توجه بصورة أكبر نحو النحت في مرحلة الماجستير، حيث اكتشف بالصدفة المحضة شغفه نحو هذا الفن، أعجب بالكتل غير المتناسقة، وأسرته المفاهيم التي يتبناها هذا الفن العريق، في كل زاوية من زواياه يرى فهد قيمةً فنيةً عظيمة تستحق أن تروى. لم تكن هواية فقط، بل وسيلة للتعبير عن أنفسنا وثقافتنا وحتى تقلباتنا النفسية، وفي نهاية المطاف؛ من استطاع أن ينحت الحجر والصخر، فلن يوفقه شيء!
التحدي هو الدافع الأول
تشترك الفنون في القيم والمفاهيم، ولكنها تختلف في التطبيق والتنفيذ، في العديد من الفنون يملك الفنان الخيار للتراجع والتعديل، ولكن النحت يكسر هذه القاعدة فلا مجال للتراجع، وخطوتك القادمة يجب أن تكون مدروسة بعناية، ويصف فهد هذا المفهوم بصورة بديعة قائلًا: “في عالم النحت؛ لا وجود لـ “”Control Z” قاصدًا لا مجال للتراجع.
فهد الذي وجد شغفه إبان شبابه، أعجب بذلك المفهوم الذي لامس رغبته في الفوز دائمًا وتحقيق المزيد، محدثًا نفسه بلسان الشعر العربي “ وَمَنْ يتهيب صُعُودَ الجِبَالِ ** يَعِشْ أبَدَ الدَهرِ بَيْنَ الحُفرْ”، وعلى الرغم من تعدد أنواع فنون النحت وخاماته المستخدمة، إلا أنه أصرَّ على التعامل مع أصعبها وأشدها دقة وخطورة: الحجارة والصخور والأخشاب، لأنها غير قابلة للتعديل والتجريب، وهنا يكمُن التحدي.

رحلة النحت والحضارة الإسلامية
احتضنت الحضارة الإسلامية مختلف الفنون الشرقية والغربية، وحظيت الفنون بازدهار ملحوظٍ إبان فترات الحكم الإسلامي، إلا أن النحت هو أبرز الفنون إثارة للجدل، بحكم الجدلية الدينية التي تطوف حوله فيما يخص تجسيد ذوات الأرواح وتشكيل الوجوه الإنسانية، ليدَّعِي البعض بأن الحضارة الإسلامية حدًّت من قدرة فن النحت على التطور والانسجام مع المفاهيم الثقافية الأخرى، إلا أن تلك الفكرة جانبت الصواب كما يرى فهد الجبرين، ليؤكد بأن هذا المحظور أوجد مساحة مختلفة للفنان المسلم ليظهر بأعمالٍ إبداعيةٍ منقطعة النظير.
يستدل فهد الجبرين على ذلك بأحد الأدلة الدامغة؛ مشيرًا إلى أن الكثير من الجامعات الأكاديمية من مختلف دول العالم، باتت تدرس الفنون الإسلامية كونها تمتلك روحًا خاصة تميزها عن بقية الثقافات والحضارات، ويضيف: “على نقيض ما يقال، وضعت النظرة الإسلامية الفنان المسلم في تحدٍ حقيقي ليظهر بمفاهيم جديدة دون استنساخ لباقي الحضارات، وهو الأمر الذي أبرز الحرف العربي والفنون التجريدية الإسلامية.”

كبقية الفنون؛ يتشكل فن النحت بسحب الهوية المحلية والتقاليد الاجتماعية للشعوب، حتى الطبيعية الجغرافية تلعب دورًا هامًا في رسم تلك التفاصيل الفنية، ولكن البعض ينادي بالدمج الثقافي على غرار العولمة التي تعرضت لها شعوب المنطقة. يسعى فهد إلى تقديم وجهة نظر محايدة ليعكسها على أعماله، ولكنه يؤكد على أهمية تخطي الحاجز المحلي في فنون النحت لتنقل واقعنا بلغة عالمية لباقي شعوب الأرض.
فهد الجبرين
“في الحقيقة لا وجود لهوية محلية صرفه في زمننا هذا، الهوية العالمية أصبحت طاغية على هذا الفن مع وجود بعض نقاط الالتقاء لمختلف الحضارات والثقافات، ولكن لابد من أن تكون ثقافتك المحلية حاضرة في أعمالك الفنية، قولِبها بطابع عصري، فالتقليد وحده لن يكون مؤثرًا “.
عند إمعان النظر في الفوارق الفنية بين الفنون الشرقية والأخرى الغربية، نجد أن الفن الغربي يرتكز على قيمة “الإنسان” كونه محورًا أساسيًا في الصناعة الفنية، في حين تتبنى الفلسفات الشرقية وجهة نظرٍ مغايرة تتجاوز قيمة الإنسان وصولًا إلى الكون والوجود والقيم العليا، هذه الاختلافات تترك الفنان في حيرة من أمره لتحديد مسار عمله الفني، إلا أن فهد وجد مفتاحه بالمزج والانسجام، مع إضفاء لمسة شرقية خاصة تُميز منحوتاته.

أدوات مألوفة!
تختلف أنواع فنون النحت، فمنها البنائي والعمودي والتركيبي وغيرها الكثير، ولكن الجبرين أكد على قاعدة أساسية تُلخص فن النحت، وهي “ثلاثية الأبعاد”. مع اختلاف الأنواع يواجه النحات اختلاف الخامات المستخدمة بحسب طبيعة العمل ورغبة الفنان الشخصية، يمكنك استخدام الحجر أو الصخور وحتى الأخشاب والطين، إلا أن الحجر هو الأكثر استخدامًا بحكم وفرته في أراضي المملكة العربية السعودية.
“ستجد بجانب منزلك خامة من الحجر مناسبة لممارسة شغفك” فهد الجبرين
نقطة لقاء

انطلقت فعاليات ملتقى طويق للنحت في نسخته الرابعة، ويعد حدثًا سَنَوِيًّا مُهِمًّا في مشهد الفن العالمي حيث يلتقي في الرياض أبرز فناني النحت من المملكة العربية السعودية ومختلف دول العالم لتقديم أعمال فنية إبداعية في عرضٍ حي مباشر، حرص فهد أن تكون أعماله حاضرة في ملتقى طويق للنحت، ليشارك بإحدى منحوتاته المميزة والتي أطلق عليها “نقطة لقاء”، تحمل المنحوتة العديد من الرموز والدلالات، حيث استوحى فهد المنحوتة الفنية من ملتقى طويق.
على يمين المنحوتة؛ نرى قطعة حجر كبيرة تمثل الوفرة، وجزء آخر على اليسار يمثل الاختلاف ليعكس الأقلية التي ما زالت تمثل جزءًا من نسيج المنحوتة وهي مفتاح التوازن الفني. كل جزء من الكتلة تحمل خطوطًا متوازية، يناظرها في الجزء المقابل خطوط متعاكسة، لتجسد توجهات الناس وطرائقهم المختلفة، في نهاية المطاف تتلاقى هذه الخطوط لتمثل التقاء البشرية في العديد من القضايا المشتركة. وهنا في ملتقى طويق للنحت؛ كان النحت هو نقطة التقاء الجميع.
الجبرين
“سعيد وفخور بما صنعته المملكة في وقت وجيز، واضعةً بصمةً عالميةً يراها العالم أجمع” فهد واصفًا ملتقى طويق.
أخبرني فهد أنه أحب النحت صغيرًا، إلا أنه هذه الفرص لم تكن موجودة في صغره، مشيرًا إلى أن ممارسة هذه الشغف بات أمرًا في غاية السهولة، يمكنك ملامسة موجة التفاؤل التي تعتلي محيَّاه، مؤكدًا اطمئنانه على مستقبل النحت في المملكة العربية السعودية.
فهد الجبرين
“رأيت العديد من الزوار يقطعون المسافات فقط من أجل مشاهدة المنحوتات ومراحل تشكيلها وهو أمر مذهل، لا يعتريني الخوف فيما يخص مستقبل النحت في المملكة العربية السعودية، وعدد المهتمين ما زال في ازدياد.”
يمكنك قراءة: وثائقي كنوز الجزيرة العربية المنسية: مدينة دادان القديمة، الذي يح
