في زمنٍ يتغيّر فيه المشهد الفني السعودي بسرعة غير مسبوقة، يبرز الممثل فايز بن جريس كأحد أبرز الوجوه التي تعيد رسم ملامح الدراما السعودية من خلال الأدوار العميقة والمتنوعة التي يتقمصها بإحترافية عالية. فبينما تميل معظم الإنتاجات الحالية نحو الكوميديا، يعود الممثل السعودي بمسلسل “الضارية”، عمل دراميّ أكشَن جديد، مليء بالأحداث والإثارة.

قبل يوم واحد من الاحتفال باليوم الوطني السعودي الخامس والتسعين، كانت العاصمة الرياض تنبض بالحياة، تكتظ بالحركة والحماس الوطني الذي يتماشى مع شعار هذا العام: “عزنا بطبعنا”. تزينت الطريق الممتدة من مطار الملك خالد الدولي وحتى مكان لقائي بالممثل فايز بن جريس بألوان علم المملكة، مما أضفى جواً من الفخر والبهجة على الأجواء.

وصلت إلى جلسة التصوير التي أقيمت في فيلا حديثة بشمال الرياض، تجمع بين الطابع المعاصر واللمسات التقليدية التي تعكس روح المدينة. بعد قليل، وصل فايز بن جريس مرتديًا ملابس سوداء بالكامل، هادئًا ومتزناً، يحمل في عينيه عمق تجربة مهنية وبساطة شخصية نادرة.

وبعد حديث قصير، توجهنا معًا إلى قسم الأزياء لاختيار ملابس جلسة التصوير، وما أن بدأنا حتى مازحني قائلاً بابتسامة: “يا أخي، الجو حارّ والحرارة أربع وأربعون درجة! تريدني ألبس كل هذه المعاطف؟ أتركها للندن؟”

في الغد، سيسافر بن جريس إلى لندن، ليس لقضاء عطلة استجمامية، بل كطريقة للتخلص من ثقل الدور الذي أنهى تصويره مؤخرًا. يشرح: “أحرص دائمًا على السفر بعد الانتهاء من الأدوار المعقدة، فذلك يساعدني على الانفصال عن الشخصية والعودة إلى ذاتي الحقيقية.”

قبل أيام قليلة من لقائنا، أنهى تصوير مسلسل “الضارية”، وهو عمل درامي قصير يتكون من ثماني حلقات من نوع الأكشن والدراما، ومن المقرر عرضه على منصة “شاهد” بنهاية شهر أكتوبر. يجسد في المسلسل شخصية يوسف، ابن مهرب أسطوري، يعيش صراعًا داخليًا بين إرث والده وضميره، وسط تصاعد صراعات الطمع والولاء والحقيقة.

يروي المسلسل قصة الإرث والصراع الداخلي والانهيار الأخلاقي في بيئة لا تحميها الجبال، ويراهن بن جريس على هذا المشروع بشدة، متحدثًا عن ثقته به. ويشير إلى أن “الضارية” يأتي بصيغة قصيرة، وهو أمر نادر في سوق يميل إلى مسلسلات رمضانية طويلة تمتد لثلاثين حلقة أو أكثر، أو المسلسلات التركية التي تتجاوز التسعين حلقة، مما يجعل هذه التجربة مخاطرة حقيقية. يوضح: “أعمال الأكشن نادرة في المملكة، حيث تعتبر الكوميديا الخيار الأسهل والأكثر انتشارًا. ما جذبني في هذا الدور هو تعقيده، فهناك خط رفيع بين الخير والشر. يوسف زعيم عصابة، لكنه في الوقت ذاته متعاطف ويهتم بالناس ويحظى باحترامهم. هذه الثنائية تعطيه إنسانية خاصة.”

ورغم انتهاء التصوير، لا يزال الدور راسخًا في ذهن بن جريس. فقد غمر نفسه بالشخصية لدرجة تبني بعض سماتها، من بطء الكلام إلى تغييرات دقيقة في الحركات ولمسات خاصة بلغة الجسد. “صممت صوته وحركاته، وحتى طريقة حمل يديه تغيرت.” كانت تجربة التحول قوية للغاية لدرجة أنه حجز رحلته إلى لندن ليبتعد ويترك خلفه بقايا الشخصية، يقول: “أحتاج أن أترك الدور هنا وأعود إلى ذاتي.”

على الصعيد البدني، كان الدور تحديًا حقيقيًا، حيث أصيب خلال التصوير في أوتار الفخذ، مما استلزم خضوعه للعلاج الطبيعي. لكنه استمر في التصوير والمغامرات لم تتوقف. يقول بن جريس: “المسلسل ثقيل وذو عمق، وأنا مؤمن أن الجمهور سيتحمس لرؤية مستوى الحركة والأكشن الذي نقدمه.”

أثناء الاستراحة، أخرج هاتفه ليعرض عليّ مشهدًا رئيسيًا من المسلسل الجديد مليئًا بالأكشن والتعابير القوية، يظهر فيها قدرة هذا الممثل الهادئ على تجسيد الأدوار ونقل المشاعر بتمكن.

فايز بن جريس

وخلال جلسة التصوير، أظهر بن جريس مرونة كبيرة عندما طلبت منه المشي على حافة مسبح عميق مرتديًا معطفًا وحذاء رسمي، لم يتردد لحظة وكان جاهزًا تمامًا. هذه هي روح فايز بن جريس: نجم يحب الحركة ويسعى لتحقيق اللقطة المثالية مهما كانت المخاطر.

لم تكن رحلة بن جريس إلى النجومية سهلة، فهو من قرية “العمارية” في الرياض. قبل أن يتجه إلى التمثيل، كان عاشقًا لكرة القدم ويحلم بأن يصبح لاعبًا مشهورًا، لكنه أصيب إصابة كبيرة أجبرته على الابتعاد عن الميدان.

في سن التاسعة عشرة، انتقل إلى الولايات المتحدة لمتابعة دراسته في معهد نيويورك للغات، لكن مدير المدرسة شجعه على الانضمام إلى دروس المسرح مقابل ضمان نجاحه، يصف بن جريس تلك اللحظة بأنها كانت نقطة تحول في حياته. كانت الدورة التدريبية قصيرة مدتها ثلاثة أشهر، لكنها أطلقت لديه شغفًا لم يعرفه من قبل: “اكتشفت أن التمثيل هو العلاج النفسي الذي يسمح لي بإطلاق كل العواطف المكبوتة.” من هنا بدأ مشواره الفني، ثم استكمل دراسته في التمثيل السينمائي بأكاديمية نيويورك للأفلام في لوس أنجلوس.

ومع ذلك، لم يخلُ طريقه من التحديات، حيث يكشف لمجلة “إسكوير السعودية” أنه اضطر إلى التكتم عن دراسته للتمثيل وتعرض لمعارضة من المحيط القريب، مضيفًا: “لم يكن أحد يعلم أنني سألتحق بمعهد التمثيل، الجميع كان يظن أنني سأدرس البزنس واللغات، لأعود للعمل في السعودية، فكان الأهل والأصدقاء ينظرون إلى التمثيل كمهنة المهرجين.”

لكن هذا التكتم لم يستمر طويلاً، إذ بعد أول مشاركة تلفزيونية خلال رمضان، شاهدته والدته على الشاشة فاتصلت به طالبة عودته إلى المملكة فورًا، وحاول بن جريس إقناعها بأنه يحقق نجاحًا حقيقيًا في دراسته وفي المهنة التي يمارسها بشهادة الجميع.

عاد فايز بعدها إلى السعودية، حيث لم تكن العودة سهلة، فقد عمل كسائق توصيل ليحافظ على استقلاليته المالية، مؤمنًا بأن كل رفض هو تحضير لفرصة قادمة. هذا الإصرار أثمر عام 2021 بدوره في مسلسل “رشاش”، الذي حقق له شهرة واسعة ونال إشادات كبيرة، وحصل على جائزة الوجه الجديد المفضل في فئة المسلسلات خلال حفل “جوي أواردز” 2022.

في هذا الدور، جسد شخصية عمر الشاب الهادئ والبريء، الذي تنقلب حياته من حب الشعر والأدب العربي إلى تورطه في سلسلة من الجرائم التي كان “رشاش العتيبي” وراءها خلال فترة الثمانينيات، مستعرضًا جهود الأمن في تحقيق النظام ومعاقبة المجرمين. يشير جريس إلى الجهد الكبير الذي بذله، حيث امتدت أوقات التصوير أحيانًا إلى ثلاث عشرة ساعة يوميًا.

محطة أخرى بارزة في مشواره، فيلم  Rupture من إنتاج استوديوهات MBC، الذي فاز بجائزة أفضل فيلم سعودي في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي.

وبعدها، شارك في العديد من المسلسلات الأخرى مثل “اختطاف”، و”من هو ولدنا؟”، و”صعود السحرة”، وغيرها. يفضل جريس اختيار الشخصيات المعقدة والمركبة، خصوصًا تلك التي لم تكن الحياة عادلة معها، التي تحمل عمقًا إنسانيًا وجوانب متعددة.

فايز بن جريس

اليوم، يُعد فايز بن جريس جزءًا من جيل جديد من الممثلين السعوديين يعيدون تعريف صناعة الفن، ويرى أن رؤية المملكة 2030 تهدف إلى تأسيس بيئة فنية إبداعية تتيح للمواهب ممارسة فنونها بكل أشكالها. يؤكد: “المجتمع السعودي يضم الكثير من المواهب الاستثنائية من الشباب والشابات، والدولة تعمل عبر برامج ومبادرات نوعية على تمكينهم، وتهيئة فرص التعليم والتعاون بين المواهب للتعبير عن نفسها بوسائل متنوعة.”

يرى جريس أن المملكة اليوم في طور بناء صناعة الفنون، ويشير إلى الحاجة الماسة لوجود مدارس متخصصة في تعليم التمثيل والإخراج والكتابة الفنية خلال المرحلة الحالية والمستقبلية، متوقعًا: “خلال الخمس سنوات القادمة، بإذن الله، سيصبح المجال الفني من أقوى المجالات في المملكة، وسيصل إلى العالمية.”

يدعو إلى إنتاج المزيد من الأعمال المحلية المتنوعة وليس فقط الكوميدية، ويعتبرها السبيل الوحيد لبناء الثقة في الإنتاج السعودي، مع تأكيده أن العمل الدرامي يجب أن يكون نشاطًا مستمرًا وليس موسميًا.

يقول جريس: “الكوميديا سهلة، لكنني أريد أن يثق المنتجون بالدراما والأكشن، فهذه القصص مهمة جدًا، أصعب وأغلى تكلفة، لكن الجمهور يطلبها.”

رؤية الفنان فايز بن جريس للممثل الناجح تعتمد على عدة محددات رئيسية، منها الالتزام، والتوفيق، والابتعاد عن الغرور، والعمل باحترافية. ويضيف: “دائمًا ما أرغب في تغيير أدواري باستمرار، لا أحب أن أحصر نفسي في شكل أو دور محدد، أريد أن أتمتع بمهنة التمثيل بكل تفاصيلها، وأجسد الشخصيات الطيبة والشريرة، وأعمل على تعديل الشخصية وإخراج كل المشاعر والأحاسيس للوصول إلى أعماقها.”

فايز بن جريس

بالنسبة له، التمثيل هو انعكاس للصدق، “عليك أن تصدق كل كلمة قبل أن تقولها، فإذا صدقتها، تعبر عنها بصدق. التمثيل بالنسبة لي هو تفاعل حقيقي مع من أمامك.”

خارج الشاشة، يظهر فايز بن جريس بشخصية مختلفة تمامًا، دافئة ومنفتحة، سريع الضحك، لكنه يعترف بصعوبة التواجد المستمر على وسائل التواصل الاجتماعي، ويقول: “تكمن قيمة الممثل في عواطفه وتعبيرات وجهه. إذا كشفت كل شيء على وسائل التواصل، يعتاد الناس عليك ويصبح تأثيرك أقل على الشاشة، لذا أفضل الحفاظ على قدر من الغموض.”

مع غروب الشمس في الرياض واختتام جلسة التصوير، يبقى حماس فايز بن جريس واضحًا، ويختتم بنصيحته لأي ممثل سعودي شاب: “اعملوا بجد، وادرسوا المهنة، خذوا دورات أونلاين، واستثمروا في مهاراتكم.”

يُعرض مسلسل “الضارية” نهاية شهر أكتوبر على منصة “شاهد