خبرته الطويلة في عالم اللحوم المدخنة وشغفه اللامحدود في هذا الفن أكسبا العم خليل لقب “عرَّاب اللحوم المدخنة في المملكة”، تعرف معنا على رحلته المذهلة.

استخدمت البشرية النار في الطهي منذ سالف العصور والأزمنة، وهي الطريقة التقليدية التي نشأت عليها الحضارات قديمًا، وعلى مر العصور، تطورت آليات الطهي بصورة مذهلة لتستخدم سلق الطعام بالماء الحار، وتسخين الحجارة وغيرها الكثير، ولكن في القرنين الماضيين، ظهرت وسيلة مبتكرة نشأت لدوافع اقتصادية بالدرجة الأولى أو لحاجة ملحة، واكتسحت عوالم الطهي كانتشار النار في الهشيم، فما هو أسلوب تدخين اللحوم؟


يعد تدخين اللحوم تقنية مبتكرة تعتمد على طبخ اللحوم على نار هادئة ببطء شديد بعيدًا عن اللهب الحارق، بدرجة حرارة تتراوح بين 90 و160 فهرنهايت، وتستخدم أنواع محددة من الأحطاب المختلفة لتترك طعمًا خاصًا في هذه اللحوم. اليوم لم يعد تدخين اللحوم وسيلةً للطهي فحسب، بل مهارة وفن يمتهنه الكثير من العاشقين، يتصدرهم العم خليل، الذي أطلقنا عليه لقب “عرَّاب اللحوم المدخنة في المملكة العربية السعودية”.

العم خليل
Uncle Khalil

ولد العم خليل في الولايات المتحدة الأمريكية، وترعرع محبًا للطهي وآلياته، إلا أن شغفه في تدخين اللحوم بدأ بالصدفة المحضة قبل قرابة 30 سنة، عند زيارته لأحد المطاعم العريقة التي تقدم هذه الأصناف في ولاية تكساس بالولايات المتحدة الأمريكية، واليوم يملك سلسلة مطاعم “العم خليل” التي تقدم أجود أنواع اللحوم المدخنة في المملكة.


للوهلة الأولى، لم يتعرف العم خليل على هذه الأصناف، المتسمة بلونٍ أسود يشابه الاحتراق، وعند سؤاله للعاملين في المطعم أوضحوا له الطريقة المُتَّبعة هنا في طبخ اللحوم باستخدام توابل بسيطة مقتصرة على الملح والفلفل الأسود فقط، أسرته هذه التقنية فورًا، وغيرت هذه الزيارة مجرى حياته لاحقًا، يعلق العم خليل قائلًا: “خطفني هذا المفهوم المبتكر عند تذوقي للحم المدخن للمرة الأولى، وقررت حينها أن أتعلم هذا الفن لممارسته والإبداع فيه، كنت على موعدٍ مع القدر، ومنذ ذلك اليوم حاز جل اهتمامي”.


تختلف الروايات حول ظهور هذه التقنية، يُحليها البعض للبعوث الإسبانية التي حطَّت رحالها العالم الجديد “القارة الأمريكية” قبل مئات السنين، حيث استَلهَمت هذه البعوث طريقة تدخين اللحوم من الشعوب الأصلية للقارة الأمريكية، إلا أن المرحلة التي خطَّت أولى مشاهد هذا الفن تعود إلى تاريخ معاصر، حين لجأ الجزارين الألمان إلى طريقة تدخين اللحوم لحفظها أطول فترة ممكنة، لكن المفارقة أن الذائقة العامة استحسنت هذه اللحوم المدخنة، وفضَّلتها على غيرها، لتتحول هذه المتاجر إلى مطاعم محلية تقدم أطباق اللحوم المدخنة المذهلة.


الرواية المذكورة آنفًا ليست الوحيدة في ذاكرة التاريخ، ويؤكد بعض الخبراء إلى أن اللحوم المدخنة نشأت بين الأوساط الفقيرة في حقبة العبودية التي دارت رحاها في الولايات المتحدة الأمريكية، اعتاد الإقطاعيون آنذاك على تناول أجود أنواع اللحوم البقرية وترك الأجزاء الرديئة للفئة المغلوب على أمرها، لتستهلك اللحوم القاسية مثل الصدر”البريسكت”، وهي عضلة صلبة غير صالحة للشوي وحتى السلق. تحتم على الفقراء إيجاد وسيلة بديلة لطهي هذه الأجزاء، فظهر التدخين كوسيلة مبتكرة قادرة على تحويل أقسى اللحوم إلى وجبة مذهلة وطرية بعد طبخها على نارٍ هادئة لمدة تتجاوز الـ16 ساعة وأكثر.


يؤكد العم خليل أن التقنية المستخدمة في تدخين اللحوم هي السر وراء شغفه، فهذه المهمة تتطلب مهارة وحرفية عالية، بالإضافة إلى عامل التحدي القائم على صعوبة تذوق اللحوم قبل نضجها، ويضيف: “تدخين اللحوم أشبه بلوحة فنية وقودها الإحساس وحسن التقدير، يجب أن تُولِي اهتمامًا بأدق التفاصيل، قوة النار على سبيل المثال، بالإضافة إلى الشكل والملمس، هو فن بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وعند طهي اللحوم المدخنة يجب أن تكون حواسك يقظة بالكامل للوصول إلى نتيجة مرضية”.


في بداية رحلته الفنية (وأحرص شخصيًا على الالتزام بهذه الكلمة “فنان” لوصف التفاني الذي يتسم به العمل خليل، والمتجاوز لمفهوم الطهي التقليدي وصولًا إلى الفن القائم على الإبداع والابتكار مع تسخير جميع الحواس) اقتصرت تجارب العم خليل على دوائره الاجتماعية الضيقة، لم ينظر لهذا الفن بصورة تجارية، بل كعاشقٍ ومحب قبل كل شيء، ولكن في الوقت ذاته، حمل العم خليل على عاتقه مهمة نقل هذه التجربة إلى وطنه المملكة العربية السعودية، ولكن كيف تجاوب المجتمع المحلي مع هذه الآلية الجديدة؟ يجيب العم خليل:

“عندما رأيت اللحوم المدخنة للمرة الأولى، استهجنت منظرها، ولكن التذوق هو العلامة الفارق. تولدت لدي الرغبة لأجلب هذه الثقافة إلى وطني، وكان عامل الجذب الأهم هو تساؤل بسيط: كيف تطبخ هذه اللحوم في درجة حرارة منخفضة لأكثر من 16 ساعة؟”.

العم خليل

الفنان والتاجر


في أواخر التسعينيات الميلادية، باشر العم خليل مهمته على نطاق ضيق؛ بين معارفه الشخصية ومحيط عائلته، وسرعان ما تطور العمل ليصل مرحلة البيع التجاري من المنزل لمرة واحدة في الأسبوع، كان القنصل الأمريكي في المملكة العربية السعودية من عملائه وأطلق عليه لقب “سفير اللحوم المدخنة”، وباقتراح من ابنته قرر العم خليل تدشين حساب على منصة إنستغرام ليشارك فنه مع الجمهور، ليدشن بعد ذلك أولى فروعه في مدينة جدة قبل سبع سنوات، ثم الرياض.


ظهرت أولى المعضلات مع دخوله لعالم الأعمال، المُتجسِّدة في الموازنة بين المعايير الفنية للمحافظة على الطعم، والتجارية لتحقيق الأرباح، وهي معادلة عسيرة ومستعصية، خصوصًا مع الخلفية الفنية للعم الخليل القائمة على تقدير هذا الفن قبل شيء.

Uncle Khalil


“حرصت على ألا ألعب دورًا مهمًا في الإدارة، ويعود الفضل في عملية التحول التجاري إلى صهري الذي صاغ الهوية التجارية لمطاعم العم خليل، لتصبح بمثابة عمل عائلي من الدرجة الأولى، يشرف ابني على الطهي في فرع جدة، وتساعدني زوجتي كذلك. أنا شخص عاشق، ولست رجل أعمال، عملي مقتصر على النواحي الفنية، وواجهت العديد من العقبات عند تدشين الفرع الأول” العم خليل.


تنوعت التحديات التي واجهت العم خليل، بدءًا بعملية التدخين التي تتطلب ساعات طويلة، بالإضافة إلى ندرة العمالة الماهرة، وأضطر العم خليل للنوم داخل متجره في بعض الأحيان. يشدد العم خليل على مفهوم الضيافة المنزلية الذي اعتمده في مطعمه، لتقديم أطباقه بأفضل صورة ممكنة.

تدخين اللحوم بلمسة سعودية


على الرغم من أن الشكل الحالي لمفهوم اللحوم المدخنة ظهر في جنوب الولايات المتحدة الأمريكية، وتمكن عشًّاق هذا الفن (ومن أبرزهم العم خليل) من جلبه للمملكة العربية السعودية، لكن السؤال الملح هنا، هل بإمكاننا تصدير هذه الثقافة بلمسة سعودية للعالم أجمع؟


يؤكد العم خليل أن تقنية تدخين اللحوم ليست حكرًا على أحد، ومع التزامه بالمبادئ الكلاسيكية في أسلوب التحضير على طريقة تكساس الشهيرة، إلا أنه أبدى اهتمامه بتطعيم هذا الفن بلمسات محلية أصيلة، كاستخدام لحوم الأغنام والجمال بدلا عن الأبقار، بالإضافة إلى تدخين اللحوم بأحطاب محلية تنمو في هذه الأرض، وتعد الأحطاب عنصرًا أساسيًا في عملية التدخين وتتفاعل هذه الأحطاب بتنوعها بشكل مختلف مع اللحوم، ويكشف العم خليل لمجلة إسكواير السعودية عن مشروعه الطموح الذي يرمي إلى اعتماد لحوم الجمال لتكون سفيرة اللحوم المدخنة للعالم أجمع من المملكة العربية السعودية.

بدأت أولى خطواتي لتدخين لحوم الجمال على الطريقة السعودية، وما زلت في مراحل التجربة الأولى والنتائج الأولية مذهلة. هذه اللحوم تضفي نكهة خاصة لا مثيل لها. أود إبراز هذا الفن ليصدر عالميًا على الطريقة السعودية”.

العم خليل


خلال إجرائي لهذه المقابلة، سألت العم خليل عن المكونات المستخدمة عند طهي اللحوم المدخنة؟ أجابني بكل بساطة: “الملح والفلفل الأسود والحطب، بالإضافة إلى العنصر الأهم: الحب”. تعكس الإجابة المختصرة الشغف والحب الذي يكنه العم خليل لهذا الفن على مدار قرابة 30 سنة، وحتى اليوم ما زال في خضمِّ رحلة التعلم والاستكشاف، ليسير “عرَّاب اللحوم المدخنة” بفنه إلى بر الأمان.

يمكنك قراءة: الفنان جاك أرميسترونج: صاحب أغلى اللوحات في العالم، الغرب فقد بريقه الإبداعي.

المحتوى ذي الصلة