يتصدّر توتو وولف اغلاف مجلة إسكوير السعودية في مقابلة خاصة
في عالم الفورمولا 1 حيث تحسم الثواني المصائر، كل لحظة تحمل وزنها الذهبي. مع دخول فريق مرسيدس إيه أم جي حقبة جديدة بعد تنحّي لويس هاميلتون، يبقى توتو وولف الشريك المالك، الرئيس التنفيذي ومدير فريق مرسيدس إيه أم جي بيتروناس فورمولا 1، العقل المدبّر الذي يرسم ملامح مستقبل الفريق، خطوة بخطوة، وقرار يلي الآخر.
مع توتو وولف، كل دقيقة لها قيمتها… حين تكون مسؤولًا عن أحد أقوى فرق الفورمولا 1 على مرّ التاريخ، فالوقت ليس رفاهيةً متاحة. لهذا، عندما دعينا إلى مقرّ أديداس في هرتسوغن آوراخ، ألمانيا لحضور الإعلان المنتظر عن الشراكة الجديدة بين العلامة التجارية وفريق مرسيدس إيه أم جي بيتروناس فورمولا 1، أدركنا أن وقتنا مع وولف سيكون ثمينًا ومحدودًا. أربع دقائق فقط… تلك هي الفرصة المتاحة لنا لدخول عالمه، وإلقاء نظرة على الرجل الذي يقف وراء الدقة والانضباط، واستيعاب المتغيرات التي تطرأ على فريق يعيد ضبط مساره بعد رحيل هاميلتون.
لكن أربع دقائق مع توتو وولف تكفي تمامًا لفهم القوّة التي تجعله شخصية استثنائية في عالم السباقات. حضوره مغناطيسي، يفرض هيبته دون أن يكون متسلطًا. عندما يتحدث، يقوم بذلك بيقين شخصٍ بنى كيانًا لا يتزعزع، لكنه في الوقت عينه مدركًا هشاشة النجاح.

منذ لحظة وصوله إلى مكان التصوير، كل شيء كان مدروسًا، دقيقًا ومنضبطًا إلى أقصى حدّ. هالة من الحزم أحاطت به قد توحي بالرهبة، لكن الواقع كان عكس ذلك تمامًا. رغم قامته الفارعة ونظراته الثاقبة، إلا أن حضوره كان جذّابًا، وسلوكه سلسًا على نحو يبعث الدهشة. لم تكن هناك حاجة إلى أحاديث سطحية، بل ساد تفاهم ضمني بأن كل ثانية لها قيمتها، سواء على الميدان أو خارجه.
“البداية الجديدة تحمل دائمًا إثارتها الخاصة”، يقول وولف بنفس الشغف الذي رافقه منذ أن تسلّم دفّة قيادة مرسيدس قبل أكثر من عقد. “لم يتغير الأمر منذ العام 2012. لا يمكن توقّع ما سيحدث أو كيف سيكون أداء السيارة”. يدفعه المجهول للاستمرار، سعيًا دائمًا وراء جزءٍ بسيط من الثانية، ذلك الفارق الضئيل الذي يبقي مرسيدس في مقدّمة الفورمولا 1.
قرارات مصيرية
مع ذلك، اعتاد الناس رؤية وولف كرجل يملك جميع الإجابات. صنع إمبراطورية، وأدار انتصارات حطمت الأرقام القياسية، واتّخذ بعضًا من أكبر القرارات في تاريخ الرياضة، ومع ذلك، تبدو اللحظة الحالية مختلفة. هناك تغييرات على كافّة المستويات وللمرّة الأولى، ليس من الواضح ما إذا كان وولف يملك الإجابة، على الأقل ليس بعد، حتى أنه يعترف بمدى تعقيد الموقف. “أعتقد أن دوري يتطلّب مني أن أكون كل شيء في آنٍ واحد: يجب أن أكون القائد، الأب، الأخ، الطبيب والمعالج النفسي”، يقول مازحًا بنبرةٍ تحمل البعض من الجدية. “لكن في النهاية، الأمر كله يتعلق بتوفير الإطار الصحيح لهم حتى يتمكنوا من تقديم أفضل ما لديهم”. على ما يبدو أن إدارة فريق في الفورمولا 1، لا يختلف كثيرًا عن تربية الأطفال.
بات الموسم الجديد وشيكًا، وينطلق من المكان الذي تحوّل إلى أحد أبرز معاقل الفورمولا 1: الشرق الأوسط. تقام الجولة الافتتاحية في البحرين، تليها جدّة في المملكة العربية السعودية، فيما يختتم الموسم تحت أضواء حلبة مرسى ياس في أبوظبي. هذا الامتداد يعكس مدى تغلغل ثقافة سباقات السيارات في المنطقة. ما كان ينظر إليه في السابق كحدث فاخر أصبح اليوم جزءًا أصيلًا من المشهد الرياضي في منطقة الشرق الأوسط. “كانت البحرين سبّاقة في هذا المجال، إذ وضعت الشرق الأوسط على خارطة الرياضة العالمية؛ أما الآن ومع دخول قطر، أبوظبي والسعودية، أصبحت البصمة الإقليمية قوية للغاية”، يقول وولف.
لاحظ مايكل باتز، المدير العام لرياضة السيارات في أديداس، هذا التحوّل عن كثب. “الشغف الجارف برياضة الفورمولا 1 في هذه المنطقة بلغ مستويات استثنائية. كنت في أبوظبي العام الماضي، ورأيت الطاقة في المدرّجات، التفاعل والتشويق الشديد. تزداد الجماهير هنا شبابًا، اطلاعًا، واستثمارًا في الرياضة”. لا يمكن إنكار التحوّل؛ انتهى عصر حضور السباقات من أجل الحفلات وكبار الشخصيات فحسب، بل أصبحت عطلات السباق في الشرق الأوسط موطنًا لبعض أكثر المشجعين شغفًا على الإطلاق.
شخصية تجمع بين السلطة والإنسانية
إحدى اللحظات الحاسمة هذا الموسم كانت اتخاذ قرار انضمام كيمي أنطونيلي إلى الفريق، ولكن بالنسبة لوولف، لم يكن هذا القرار صعبًا. في بودكاست High Performance خلال شهر نوفمبر 2024، أوضح وولف ثقته في اتخاذ القرارات. “لا أواجه صعوبة في اتخاذ القرارات. لدي استجابة فطرية أثق بها تمامًا. لهذا السبب حصل كيمي على هذه الفرصة”. هذا الوضوح كان سمة مميزة في أسلوب قيادته. لكن رغم دعمه لأنطونيلي، يدرك وولف ضرورة ضبط التوقعات. “لن يأتي مباشرةً ويحقّق مركز الانطلاق الأول أو يفوز بالسباق الأول. من المهم أن نحميه من الضغوط الخارجية، وأن نوفّر له الوقت الكافي للتطوّر”.
بدأت ملامح موقع أنطونيلي الجديد تتجلى بوضوح. “أصبح الأمر حقيقةً ملموسة الآن. قبل بضعة أشهر، كان يبدو بعيد المنال، لكنه اليوم بات واقعًا أعيشه بكل تفاصيله”. رغم ثقل الضغوطات، فهو مدرك تمامًا أنه محاط بالأشخاص المناسبين. “كان جورج استثنائيًا… حتى العام الماضي، كنت أقضي ساعات طويلة برفقته ومع لويس، أراقب وأتعلم كيف يتعاملان مع عطلة نهاية الأسبوع وكيف يدفعان بحدودهما من جلسةٍ لأخرى”. هذا النوع من الإرشاد لا يقدّر بثمن!
أما جورج راسل، القائد الفعلي الجديد للفريق، فيبدو غير متأثر بالضغوط، بل يتعامل معها بثقة وهدوءٍ لافت. “أنا متفائل بأننا سنحقّق خطوة كبيرة إلى الأمام”، يقول وهو مدرك تمامًا مدى حجم التوقعات الملقاة على عاتقه. “على مدار السنوات الثلاث الماضية، لم يكن الأداء متماسكًا، وكنا بحاجة إلى تغيير ذلك النمط. أما الآن، فقد قمنا بذلك وهذه بداية جديدة”. لا يمكن إنكار الضغوط؛ فهذه مسؤولية مختلفة تمامًا عما اعتاد عليه. لكن إن كان راسل يشعر بثقل القيادة، فهو لا يظهر ذلك، بل العكس، يتقبّل التحدّي بصدرٍ رحب، مدركًا أن إرثه الخاص يصاغ الآن.

لكن تأثير وولف على سائقيه يمتد إلى ما هو أبعد من الجوانب التقنية. هو مرشد بكل ما تحمله الكلمة من معنى، شخصية تجمع بين السلطة والإنسانية. “كان بمثابة الأب الثاني لي، خاصةً في الأوقات الصعبة، إذ كان الداعم الأكبر. هو من اتصل بي للانضمام إلى مرسيدس، وأنا ممتن لذلك”، يقول أنطونيلي.
وسط كل التخطيطات التكتيكية وتطوير السائقين، هناك تحوّل لا يمكن إنكاره في الطريقة التي تعيد بها مرسيدس رسم مكانتها خارج حدود الحلبة. فالشراكة الجديدة مع أديداس هي إعلان واضح للنواياها، إذ أن الفورمولا 1 لم تعد مجرّد سباق، بل أصبحت ثقافة، أسلوب حياة وتأثيرًا عالميًا. يقول توتو وولف: “لا أستطيع التوقّف عن الابتسام حيال هذا الأمر. غابت أديداس عن عالم سباقات السيارات لفترةٍ طويلة، والآن بعد عودتنا، يمكن أن ترى الجهد المبذول… فالمجموعة الأولى رائعة، وأصبحت أيقونية منذ اللحظة الأولى.”

بمختلف الطرق، يجسّد توتو وولف هذا التحوّل… فهو في آنٍ واحد العقل المدبّر الاستراتيجي والمهندس الثقافي، يقود مرسيدس عبر مرحلة من التغيير العميق، بينما يحرص على أن يبقى إرثها صامدًا. تأثيره يتجاوز حدود جدران الحلبة؛ فهو ليس مجرّد مدير بل مرشد، قائد، وكما يقول راسل يعامل الجميع باحترام بغض النظر عن موقعهم. “لا يهم إن كنت عدوه، منافسه، في القمّة، أو حتى مبتدئًا، إذ يمنح الجميع نفس القدر من الاحترام، مما يلهم الآخرين للانضمام إلى مسيرته والسير على خطاه”.
مع اقتراب انطلاق الموسم الجديد، يجد فريق مرسيدس نفسه على مفترق طرق. رحيل هاميلتون، وصول أنطونيلي، التوسع المتزايد للفورمولا 1 في الشرق الأوسط والشراكة الجديدة مع أديداس؛ باختصار، هو موسم التحوّلات. في قلب كل ذلك، يبقى توتو وولف العقل المدبر، يراقب المشهد، يحسب كل خطوة ويتخذ قراراته بحكمة ودقة لا تعرف التهاون، لأن بنظره كل ثانية تصنع الفارق!