يتأرجح علي الكلثمي بين مشاعر الإرهاق والرضا… فمنذ أسبوعين فقط، رزقت ابنته عزة، مما تطلّب منه إعادة تنظيم حياته والتكيّف مع قلّة النوم التي تفرضها الحياة مع مولودٍ جديد. لكنه رغم ذلك يبدي حالة معنوية جيدة. «بالتأكيد، الأمور فوضوية بعض الشيء، لكن زوجتي هي من تقوم بالعمل الشاق بكل صراحة». بينما ترعى زوجته مولودهما الجديد، يتحمّل المخرج السعودي مسؤولية رعاية ابنهما عزيز بشكل كامل، قائلاً: «لا يزال صغيرًا للغاية، لذلك أتأكّد من تكيّفه مع الوضع الجديد ولا يشعر بأن حياته خارج نطاق التوازن. يتطلّب الأمر الكثير من الجهد، لكنه نعمة أن أحظى بفرصة قضاء الكثير من الوقت برفته».
أجرى الكلثمي مقابلته معنا من إحدى المطاعم وذلك عند الساعة الثالثة بعد الظهر، وهو في طريق العودة من تمارينه الرياضية، بمحاولة للاستفادة القصوى من كل دقيقة، إلا أن مخطّطه لم يحظى بنجاح. بدلًا من تأجيل أو إلغاء المكالمة، توقّف عند أقرب مطعم، وتحضّر للمقابلة مع Esquire السعودية. “ربما كنت طموحًا أكثر من المتوقّع… إحدى الأشياء التي تذكرك بها الحياة بعد إنجاب طفلٍ، هي أن كل دقيقة تُحسب!”
من خلال هذا الموقف البسيط فقط، يمكنك فهم الكثير عن شخصية علي الكلثمي. هو شخص ملتزم وغير أناني، غالبًا ما يفسّر الأشياء بعقلانية وبوجهة نظر منطقية وعميقة. هو مدرك لديناميكيات الاحتراف، الدور المهم الذي يلعبه العمل مع الآخرين والتأثير الذي يمكن أن يحدثه أي قرار على الآخرين. لكن في الوقت عينه، لا يمانع المخاطرة وتعلّم الدروس.

هذه هي سمات الشخصية التي بناها على مدار مسيرته المهنية كصانع أفلام، إلا أن علي الكلثمي ليس صانع أفلام اعتياديًا… في أمّةٍ كانت صناعة السينما فيها ذات يومٍ بمثابة حلمٍ يُهمس به، أصبح اليوم مخرجًا رائدًا، لم يكتفِ فقط في المضي بمسيرة هذه الصناعة الوليدة في المملكة العربية السعودية، بل قام بنسج بداياتها. رحلته مثل أفلامه، مزيج دقيق من الابتكار الرقمي، التعليق الاجتماعي والسرد القصصي الجريء.
لم يقتصر حرمانه من النوم على إنهاكه، إذ خرج مؤخّرًا من أخطر مشروع في مسيرته المهنية، ألا وهو فيلمه الروائي الأوّل: مندوب.
حقّق هذا الأخير، نجاحًا كبيرًا منذ عرضه في بداية العام ٢٠٢٤، حيث تصدّر شبّاك التذاكر السعودي بعد عرضه في مهرجان البحر الأحمر السينمائي في جدّة. تدور أحداث الفيلم في ، حول قصّة فهد، الذي أدّى دوره الممثل محمد الدخعي وشريك الكلثمي، الذي بعد طرده من مركز اتصالات في مدينة الرياض، تولّى وظيفة ساعي ليل يبيع الكحول بطريقةٍ غير مشروعة لإسعاف والده المريض.

الفيلم عبارة عن اكتشافٍ متعدّد الطبقات للحزن والفداء، إذ أثار عرضه موجة صدمات داخل المشهد السينمائي العربي. لم يكن فيلم مندوب مجرّد عرضٍ لقدرات الكلثمي الإخراجية، بل يمثّل تحوّلًا جريئًا نحو سرد أكثر تعقيدًا واستعدادًا لدفع حدود رواية القصص – سواء داخل أو خارج المملكة.
“كان صدى الفيلم رائعًا بعد عرضه في دور السينما، إذ أن الأفلام التي تتناول موضوعات ممثالة، نادرة للغاية في السينما السعودية، لذلك رأى الناس فيه أمرًا جديدًا. أما خلال عروضه في أماكن مختلفة مثل مصر، كان الناس مفتونين به، كونه عرض صورة للسعودية والرياض بالتحديد، من منظورٍ لم يعهده الناس من قبل”، يوضّح الكلثمي.

الرياض كما يصوّرها الكلثمي في مندوب، ليست صورة مثالية؛ هي مدينة مليئة بالتعقيدات الحياتية، تتداخلها درجات من الحزن والفرح لتلوّن التجربة الإنسانية. “تلعب المدينة دورًا أساسيًا في الفيلم. أردت أن أظهرها كما أعرفها على حقيقتها وكما أفتخر بها. أستمتع بمشاهدة الأفلام التي يمكنك من خلالها أن ترى وتشعر أشكالها المختلفة، وكيف تؤثّر على الشخصيات”.
قد تكون الأصالة هي مفتاح نجاحه وانتقاله إلى الساحة الدولية. تفاني الكلثمي للأصالة يتخطّى اختياراته للموقع؛ فهو يسعى جاهدًا لالتقاط جوهر الحياة السعودية، الآمال، الأحلام والصراعات التي يتردد صداها لدى الجماهير. باختصار، تجاوز مندوب حدود التوقّعات، ليس لأنه فيلم سعودي، بل كونه قصّةً تحمل رسائل إنسانية.
يعترف الكلثمي قائلًا: “أفتخر بفيلم مندوب والتأثير الذي تركه، ليساعد في تشكيل مستقبل عالم صناعة السينما السعودية. في الوقت عينه، كان بمثابة مسعًا خطيرًا؛ إن فشل، لكان بإمكانه أن ينهي مسيرتي المهنية”.

لم تبدأ مسيرة الكلثمي في موقع تصوير تحت أضواء الاستوديو، بل في الهمهمة الهادئة لجهاز كمبيوتر. في منتصف العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، عندما كانت صناعة السينما السعودية حلمًا خافتًا، شقّ الكلثمي طريقه في إخراج العروض الرقمية. أظهرت عروض مثل “خَـمْبَالَة” و”لا يُخَتَر” موهبته في صياغة روايات واقعية، يتردّد صداها لدى جيل متعطّش للترفيه، يتجاوز الحدود التقليدية.
يستذكر الكلثمي، متحدّثًا عن أيامه الأولى مع تلفاز١١، وهي شركة إنتاج المحتوى التي شارك في تأسيسها، قائلًا: “ساعد الإنترنت في عملية صنع القرارات. كنا نصنع عروضًا نرغب في مشاهدتها، لنكتشف جمهورًا ضخمًا عبر الإنترنت، كنا نجهل وجوده. اهتمام الأشخاص بما نقوم به، كان بمثابة تبرئة إبداعية لنا، مما ساهم بدوره في تعزيز ثقتنا بأنفسنا”.

اعتبرت الساحة الرقمية بمثابة اختبار لهم، حيث تمكّن الكلثمي من صقل مهاراته في سرد القصص وتعلّم كيفية تصوير حياتهم، وتصبح مستقبل نجاحه.
جاءت نقطة التحوّل مع سلسلة الخَـلّاط الطويلة. ساعد الكلثمي على مدار عقدٍ من الزمان، على نسج خيوطٍ كوميدية، حيث أسَر الجمهور بذكاءٍ، عبر مواضيع تدور حول المجتمع السعودي المعاصر. تجاوزت شعبية العرض حدود التوقّع وحصل على اقتباسٍ من نتفليكس. هذه الأخيرة كانت بمثابة شهادة على قدرته في إيجاد الفكاهة في موضوعات اجتماعية.

لم يكتفِ الكلثمي فقط بإضحاك الناس؛ كان يتوق للتعبير بشكلٍ أعمق، عبر منصّة للتعليق الاجتماعي تتجاوز حدود أعماله الكوميدية. تجلّت هذه الرغبة في فيلم وسطي القصير، الحائز على جائزة.
كان فيلم وسطي، الصادر عام 2016، بمثابة ابتعادٍ تام عن أسلوبه الكوميدي المعتاد، كونه اعتبر تعليقًا اجتماعيًا بصريًا لافتًا، تناول موضوعات حسّاسة بصدقٍ شديد، مما لاقى صدىً لدى النقّاد والجماهير على حدّ السواء. “حين أذهب لمشاهدة أفلامي، بدلًا من التركيز على الشاشة، أفضّل مراقبة ردود فعل الجمهور؛ أرغب برؤية تفاعلاتهم، ومعرفة ما إذا كانوا منغمسين بالأجزاء المضحكة أو منخرطين في الأجزاء الأكثر عاطفية”.
يمتد هذا التفاني في التواصل مع الجمهور إلى ما وراء الشاشة. في دوره كمدير إبداعي في تلفاز١١، يعزّز الكلثمي بيئة رعاية مماثلة. بكونها منصّة انطلاق للجيل الجديد من صنّاع الأفلام السعوديين، فهو دليل عن قوّة رواية القصص. “أنا فخور لمساعدة صانعي أفلام وممثلين آخرين. يمنحني ذلك الكثير من الفرح، كوني أستطيع تسهيل عمل هؤلاء المبدعين بطريقةٍ تساعدهم بالتعبير عن أنفسهم. لأكن صريحًا، ربما أفتخر بالأمر أكثر من صناعة الأفلام”.
وصل هذا الدافع لرفع مستوى الصناعة المحلية إلى ذروته مع فيلم مندوب – الذي بعد ترتيب حقوق توزيعه، سيعرض في الدور السينمائية في كل من المملكة المتّحدة، إيرلندا وفرنسا، بدءًا من هذا الصيف.

قطع الكلثمي شوطًا كبيرًا منذ تصوير الأفلام وتحميل الحلقات على اليوتيوب. بعد أكثر من عقدٍ من الزمان، أصبح من الواضح أن إبداعاته لا تغذّيها الجوائز أو التكريمات، بل هناك أهدافًا أعمق. “منذ أن أصبحت أبًا، لم أعد أقيّم نفسي من خلال أعمالي. اعتدت أن أكون شخصًا عاطفيًا وحسّاسًا عند تلقّي النقد، إلا أنني مدرك الآن، أنني أعمل لأسبابٍ غير شخصية، مما يمنحني نوعًا من السلام الداخلي”.
بينما يتنقّل الكلثمي بين متطلّبات الأبوّة وعالم صناعة الأفلام، يبقى أمرًا واحدًا ثابتًا: شغفه لرواية القصص الذي لا يتزعزع. قد يعاني من قلّة النوم مؤخّرًا، إلا أن نيران إبداعاته تشتعل أكثر من أي وقتٍ مضى. “أجد متعةً في مشاهدة أمرًا يتم تنظيمه!”
يتّضح حبه للتنظيم في نهجه تجاه المشاريع الجديدة. “حاليًّا، أستمتع بالأبوة وتمضية الوقت مع عائلتي، لكن في الوقت عينه، أتطلّع على خمسة مشاريع محتملة، يمكنني العمل عليها لاحقًا. أحب أن يكون لديّ أفكارًا متعدّدة قيد التنفيذ، وعندما يتطوّر إحداها، أصبّ كل تركيزي عليها. قمت بالأمر عينه مع مندوب، الذي استغرق ما يقارب الثلاث سنوات لصنعه”.

هذا التخطيط أكثر من مجرّد نزوة شخصية؛ هو درع ضدّ ضغوط التوقعات. “أعتقد أن ما تعلّمته هو أنني أريد إزالة أي توقّعٍ مستقبلي. أريد أن يكون مشروعي التالي مصدر سعادةٍ لي. إن أردتَ العمل على مشروع فيلم روائي، سيستغرق الأمر سنوات… لذا، عليكَ أن تزن مقدار الفرح الذي سيجلبه لك، وتسأل نفسك إذا كان يستحق فعلًا الأمر ذلك”.
علي الكلثمي ليس مجرّد صانع أفلام؛ هو خيميائي، لا يقوم بتحويل الشاشة الفضية فقط، بل مفهوم السينما السعودية بحدّ ذاته! هو راوي قصص يجد الإلهام في تراثه، معلّم يزرع أصواتًا جديدة وأبًا يبحث عن الجمال في فوضى الحياة الجديدة. مع كل مشروع، يتجاوز الحدود، يتحدّى المفاهيم ويترك الجمهور يتوق إلى القصّة التالية التي سينسجها. بينما قد يكون النوم رفاهية هذه الأيام، هناك شيء واحد مؤكّد، أن نيران علي الكلثمي الإبداعية تضيء بقوةٍ، لتنير الطريق أمام عهدٍ جديد من السينما السعودية.
